بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيرا..
أما بعد :
فهذا تقرير عن الحقيقة والمجاز الذي هو من أقسام دلالة الألفاظ باعتبار استعمالها في المعنى ، وفي هذا التقرير تحدثت بداية عن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ، ثم عرفت الحقيقة ، وبينت أنواعها ، وحكمها ، ثم عرفت المجاز وذكرت أيضا أنواعه وحكمه ، ثم ذكرت الجمع بين الحقيقة والمجاز ..
والله أسأل أن يجعل هذه الوريقات المكتوبة خالصة لوجهه الكريم الجليل .. وماكان فيها من صواب فمن الله وماكان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ..
تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز :
تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لم يعرف في عهد الصحابة والتابعين ولا أحد من أئمة النحو واللغة كسيبويه ونحوه ، وإنما هو تقسيم حدث في بداية القرن الرابع وأول من قال به أبو عبيدة معمر بن المثنى،قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(هذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم باحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين فى العلم كمالك والثورى والأوزاعى وأبي حنيفة والشافعي بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبى عمرو بن العلاء ونحوهم .
وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى فى كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة ،وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية؛ ولهذا قال من قال من الأصوليين -كأبى الحسين البصرى وأمثاله- إنها تعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها :نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا: هذا حقيقة، وهذا مجاز ، فقد تكلم بلا علم فانه ظن أن أهل اللغة قالوا هذا، ولم يقل ذلك احد من اهل اللغة، ولا من سلف الامة وعلمائها، وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب انه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين فانه لم يوجد هذا فى كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف .
وهذا الشافعى هو أول من جرد الكلام فى أصول الفقه لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز .وكذلك محمد بن الحسن له فى المسائل المبنية على العربية كلام معروف فى الجامع الكبير وغيره ولم يتكلم بلفظ الحقيقة والمجاز وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز فى كلام أحد منهم إلا فى كلام أحمد بن حنبل؛ فإنه قال فى كتاب الرد على الجهمية فى قوله: (انا ،ونحن) ونحو ذلك فى القرآن :هذا من مجاز اللغة يقول الرجل انا سنعطيك، إنا سنفعل، فذكر أن هذا مجاز اللغة .
وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال ان فى القرآن مجازا، كالقاضي أبى يعلى وابن عقيل وأبى الخطاب وغيرهم .وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون فى القرآن مجاز كأبى الحسن الخرزي، وأبى عبدالله بن حامد وأبى الفضل التميمى بن أبى الحسن التميمى وكذلك منع أن يكون فى القرآن مجاز محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية ومنع منه داود بن على ،وابنه أبو بكر، ومنذر بن سعيد البلوطى وصنف فيه مصنفا.
وحكى بعض الناس عن أحمد فى ذلك روايتين وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد ان فى القرآن مجازا لا مالك ولا الشافعى ولا أبو حنيفة فان تقسيم الألفاظ الى حقيقة ومجاز انما اشتهر فى المائة الرابعة وظهرت أوائله فى المائة الثالثة وما علمته موجودا فى المائة الثانية اللهم الا أن يكون أو اواخرها والذين أنكروا أن يكون أحمد وغيره نطقوا بهذا التقسيم قالوا ان معنى قول أحمد من مجاز اللغة أى مما يجوز فى اللغة أن يقول الواحد العظيم الذى له أعوان :نحن فعلنا كذا ونفعل كذا ونحو ذلك قالوا ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل فى غير ما وضع له .
وقد أنكر طائفة أن يكون فى اللغة مجاز لا فى القرآن ولا غيره كأبي إسحاق الاسفرائينى))[1].
تعريف الحقيقة :
الحقيقة : هي اللفظ المستعمل فيما وضع له [2]،وذلك أن المتكلم يصدر عنه اللفظ، ويريد المعنى الذي وضعه أهل اللغة ،كلفظ الشمس للكوكب الذي يضيء النهار .
وقيل: مابقي في الاستعمال على موضوعه[3].
أنواع الحقيقة :
تنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أنواع:
الأول :الحقيقة اللغوية : وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة، مثل الصيام فهو في اللغة الإمساك. قال النابغة الذبياني:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما
أي خيل ممسكة عن الجري والحركة[4]، ومثل الصلاة فهي في اللغة تعني الدعاء ،ومثل الزكاة وهي تعني في اللغة النماء ، ومثل الحج وتعني في اللغة القصد .
الثاني :الحقيقة الشرعية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع,مثل الصلاة معناها: التعبد لله تعالى بأفعال وأقوال أولها التكبير وآخرها التسليم على الصفة المخصوصة،وكذلك الصوم وهو الامساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى الغروب.
حقيقة عرفية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف. وهي نوعان:
عرفية عامة: وهي ما تعارف عليه عامة أهل العرف، مثل لفظ الدابة فهي في اللغة اسم لكل ما يدب على الأرض غير أن العرف خصصه بذوات الأربع،وكذلك كلمة شاة في اللغة عامة ، تطلق على كل ما سوى البقر والإبل من بهيمة الأنعام ، وفي العرف تطلق على الأنثى من الضأن .
عرفية خاصة: وهي ما تعارف عليه بعض الطوائف من الألفاظ التي وضعوها لمعنى عندهم. مثل الجزم فهو في اللغة القطع ، وعند النحويين نوع من الإعراب.
((والحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية ، وعلى الحقيقة الشرعية أيضا مثاله : رجل قال : والله لا أبيع اليوم شيئا ،ثم ذهب ، وباع خمرا ، أيحنث ، أم لا يحنث ؟
الجواب : أما لغة : فيحنث ؛ لأن هذا بيع ، وأما عرفا: فالواقع أنه قد يحنث ، وقد لا يحنث ؛ فإذا كان فقيها فإنه لا يحنث ؛ لأنه يعلم أن هذا البيع لا يصح ، وإن كان عاميا فيحنث،وإن حملناه على المعنى الشرعي لا يحنث ، لأن هذا البيع لا يصح)) [5].
هذا وقد أشار ابن بدران رحمه الله إلى الفائدة من معرفة أقسام الحقيقة فقال: ((ومتى ورد اللفظ وجب حمله على الحقيقة في بابه لغة أو شرعاً أو عرفاً)) [6] أهـ.
حكم الحقيقة :
حكم الحقيقة بأنواعها ،ثبوت المعنى الذي وضع له اللفظ في اصطلاح المتخاطبين وعدم انتفائه عنه ، وتعلق الحكم به . وعلى هذا إذا أوصى شخص لولد زيد بألف دينار ، ثبتت الوصية له دون غيره , لأنه لا يمكن أن يقال لولد زيد أنه ليس بولده .
ومن حكم الحقيقة أيضا رجحانها على المجاز ، ولهذا يثبت لها الحكم دون المجاز كلما أمكن حمل اللفظ على الحقيقة . فمن أوصى لولد زيد بشيء ، ثبتت له الوصية دون ولد ولد زيد ، لأن الولد حقيقة في الولد الصلبي مجاز في ولد الولد ، فيحمل اللفظ على الحقيقة لا على المجاز ،لأنه متى أمكن العمل بالحقيقة سقط المجاز ، لأنه خلف عنها والخلف لا يعارض الأصل .[7]
تعريف المجاز :
المجاز:هو اللفظ المستعمل فيما لم يوضع له لغة ، ومثاله: رأيت أسداً يرمي، فكلمة أسد تعدى بها عن موضوعها الأول وهو الحيوان المفترس، ونقلت إلى الرجل الشجاع.
أنواع المجاز :
الأول : المجاز بالزيادة مثل قوله تعالى :{ ليس كمثله شيء }[8],فالكاف زائدة ،والأصل ليس مثله شيء ، وزيدت الكاف لتأكيد النفي ؛لأن تقدير الكلام بدون كاف ليس مثل مثله شيء ، ونفي مثل المثل نفي للمثل من باب أولى ، فيكون هذا من باب التوكيد .
الثاني : المجاز بالنقصان مثل قوله تعالى : { واسأل القرية }[9]، فهذا فيه تجوز بالنقص ؛ لأن المعنى : اسأل أهل القرية . فحذفت أهل للقرينة العقلية .
الثالث :المجاز بالنقل :كالغائط فيما يخرج من الإنسان , لأن الغائط اسم فاعل من غاط يغوط إذا نزل وهبط ، وهو في الأصل الغائط المكان المنخفض من الأرض ، فنقل الغائط من هذا المعنى إلى ما يخرج من الإنسان .
الرابع :المجاز بالاستعارة :كقوله تعالى : {جداراً يريد أن ينقض } [10]،فالجدار لا شعور له فشبه بذي شعور له إرادة ، فتكون إستعارة مكنية .
وكل مجاز له حقيقة ،وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز .
حكم المجاز :
1- ثبوت المعنى المجازي للفظ ، وتعلق الحكم به ،كما في قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط }[11] يراد بالغائط هنا :الحدث الأصغر ، ولا يراد معناه الحقيقي : وهو المحل المنخفض ، ويتعلق الحكم به : وهو التيمم عند إرادة الصلاة إذا لم يتيسر الماء ، ومثله قوله تعالى : { أو لامستم النساء } يراد بالملامسة هنا معناها المجازي وهو الوطء ، لا معناها الحقيقي وهو المس باليد .
2- لا يصار إلى المجاز إذا أمكن المعنى الحقيقي، أي إن الكلام يحمل على الحقيقة كلما أمكن هذا الحمل ، لأن الحقيقة أصل ، والمجاز خلف عنه وفرع ، ولا يصار إلى الخلف أوالفرع إذا أمكن الأصل ، ولكن إذا تعذر حمل الكلام على الحقيقة فإنه يصار إلى المجاز ، لأن إعمال الكلام خير من إهماله [12].
الجمع بين الحقيقة والمجاز :
لا يمكن أن يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز في حالة واحدة على أن يكون كل واحد منهما مرادا ، مثاله : لا تقتل الأسد، وتريد به السبع والرجل والشجاع ، لأن المعنى الحقيقي هو المتبادر من اللفظ عند الإطلاق ، وإذا وجدت قرينة على إرادة المعنى المجازي تعين اللفظ لهذا المعنى المجازي ، وانتفت إرادة المعنى الحقيقي .وذهب بعضهم إلى جواز ذلك ، والصواب أول .
نعم ، يجوز استعمال اللفظ في معنى مجازي يندرج تحته المعنى الحقيقي ، وهو الذي يسمونه عموم المجاز فيمكن ، مثل حمل لفظ الأم على الأصل ، فيشمل الأم الوالدة والجدات[13]..
.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] -مجموع الفتاوى 4\60-61.
[2] -المستصفى 1\341, الفصول 1\46, أصول السرخسي 1\170 ,كشف الأسرار1\61,الورقات ص10.
[3] -الورقات ص10.
[4] - لسان العرب12\350 .
[5] -شرح نظم الورقات لمحمد بن العثيمين ص68.
[6] -المدخل لابن بدران ص174.
[7] -انظر كتاب الوجيز في أصول الفقه ص332.
[8] - الشورى:11.
[9] - يوسف : 82.
[10] - الكهف :77 .
[11] - النساء :43.
[12] - الوجيز في أصول الفقه ص334.
[13] - الوجيز في أصول الفقه ص335.
منقول