نكاح ما زاد فوق العدد الشرعي
وينتظم النقاط التالية :
1 _ حكمة تعدد الزوجات .
2 _ تقييد التعدد .
3 _ حكم نكاح ما زاد فوق العدد الشرعي .
4 _ حكم العقد على خامسة في أثناء عدة الرابعة .
حكمة تعدد الزوجات
لقد اختلف نظام التعدد في الشرائع وتباين ، فمنها ما أحل التعدد مطلقاً ولم يقيده بعدد معين ، ومنها من لم يشرع التعدد ورأى منعه مطلقاً(1) .
وجاء نظام شرعنا الحنيف بين ذلك قواماً ، فراعت شريعتنا مصلحة النوعين .
هذا وإن من حكم جواز التعدد الملموسة ما يلي :
أولاً : الإعفاف _ فقد يكون من الرجال من هو شديد الغلمة ، ميال إلى النكاح تواق إلى الممارسة الجنسية ، وهو مع ذلك قوي الجسم ، فلا تندفع حاجته بمن تحته ، وهو قادر على الإنفاق ويأنس من نفسه العدل بينهما أو بينهن ، وليس أمامه إلا طريقان : إما أن يسقط في بؤرة الزنى ، فيتخذ له عشيقات لإرواء شهوته ، وإما أن يتزوج أخرى ويتحرى العدل بين المرأتين .
فإن أقفلنا عليه باب التعدد سلك الطريق الأخرى طريق العشيقات ، فيضيع النسب ويهتك العرض ، وقد تنتج هذه العلاقة أولاداً لا عائل لهم ولا ولي حتى في عرف القانون الوضعي . وذلك نهاية الشر وغاية الحيف ، أفلا يكون من العدل والحكمة أن يتزوجها ليسعدها وأسرتها وهي محمية في ظل القانون الشرعي .
قال بدران ( وإن الأمم التي لا تجيز تشريعاتها الوضعية تعدد الزوجات ، نجدها قد اضطرت إلى إتيان ما هو شر من التعدد ، وهو اتخاذ الخليلات والأخدان من غير تقيد من الرجل للمرأة بأي حق من الحقوق ، بل تكون عرضة في أي وقت شاء للطرد والإبعاد هي وأولادها(2) .
يقول جوستاف لبون : ( إن تعدد الزوجات المشروع عند الشرقيين أحسن من تعدد الزواج الريائي عند الأوربيين ، وما يتبعه من مواكب أولاد غير شرعيين(3) ) .
ــــــــــــ
1 _ محمد أبو زهرة : الأحوال الشخصية 103 ، 104 تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي 7/310 .
2 _ بدران أبو العينين : الفقه المقارن للأحوال الشخصية 1/130 .
3 _ محمد كرد : الإسلام والحضارة الغربية 1/81 .
ثانياً : خصوبة النسل البشري ، فقد تذهب الحرب بالرجال القادرين على الإنجاب ، وتبقى النسوة الكثرة الكاثرة ، فيكون التعدد في هذه الحالة مطلوباً ، لتنمو الأمة وتعتاض ما فقدته من رجالها ، وقد يكون التعدد أمراً لا بد منه ، فهناك حالات قد تلم بالمرأة فتجعلها غير صالحة للممارسة الجنسية لا بتلائها بمرض خطير ، أو عقم محقق مثلاً ، وقد تكون هذه المرأة بلغت من السن طوراً لا يرغب في مثلها ، فالرجل إما أن يتزوج أخرى مع قيامه بشئون الأولى ورعايتها والعدل بينهما ، وهذا هو عين الوفاء ، وإما أن يطلقها ويكلها إلى المضيعة ، وليس هذا خلق الأكرمين ، لاسيما في الحالة التي لا تقدر فيها على مفارقته بعد مضي فترة طويلة عليها .
ثالثاً : استعداد الرجل أكثر إذ هو مهيأ بطبيعة تكوينه للعملية الجنسية منذ البلوغ إلى سن متأخرة ، قد تصل إلى ما فوق الستين ، وفي هذه الفترة الطويلة لا مانع يحول بينه وبين ما يريد .
بينما المرأة تعترضها شهرياً الدورة الدموية ، تصل بها أحياناً إلى خمسة عشر يوماً ، وتعترضها ، ظروف الحمل وصعوبة الإرضاع ، وفترة النفاس والولادة التي قد تمتد لأربعين يوماً ، بالإضافة إلى أن استعداد المرأة للولادة ينتهي بين الخامسة والأربعين والخمسين ، ولا بد من رعاية مثل هذه الحالات ووضع الحلول السليمة لها(1) .
وفي مثل هذه الظروف وفيما إذا عجزت المرأة عن أداء وظيفتها الجنسية ، فما الذي يفعله الزوج في هذه الفترة لا شك أن الأفضل أن يضم إليه حليلة تعف نفسه وتحفظ فرجه ، في مثل هذا الحال حتى لا يقع في شراك السوء ، وخليلات الشيطان المسافحات .
ــــــــــــ
1 _ راجع فقه السنة للسيد سابق 2/102 إلى 106 فقد وفى الموضوع حقه وأتى بما يثلج صدور أهل الحق والإنصاف .
تقييد التعدد
إن الشريعة الإسلامية لم تأمر أمر إيجاب بالتزوج بأكثر من واحدة ، بل لم تندب إليه ، ولكنها أجازت ذلك لمن قدر عليه بشروط ، عند مقتضيات الأحوال ومتطلبات الظروف ، في إطار المصلحة وعند وجود الكفاية فآية التعدد(1) .
الأول : العدل بين الزوجات :
والعدل بينهن يكون فيما هو مادي من مطعم ومسكن وملبس ومبيت وغير ذلك ومن لم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل كما ورد في الحديث(2) .
أما العدل القلبي الذي هو الميل والحب ، فهذا ليس في مقدور المرء وإليه أشار التنزيل بقوله تعالى { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ }(3) .
ولقد كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك(4) ) .
فإذا علم الإنسان أو غلب على ظنه أنه سيجور إن تزوج أخرى ، حرم عليه التعـدد ، ووجب الاقتصار على الواحدة ، فذلك أقرب للتقوى وأدعى إلى البعد عن الظلم .
ــــــــــــ
1 _ هو قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } النساء آية /3 .
2 _ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) أخرجه أبو داود في سننه 2/600 ، 601 قال الخطابي في معالم السنن 2/601 المراد ميل العشرة الذي يكون معه بخس الحق دون ميل القلوب . أ هـ .
3 _ سورة النساء آية / 129 .
4 _ أخرجه أبو داود 2/601 والنسائي 7/64 وابن ماجه حديث رقم 1971 .
القيد الثاني : القدرة على الإنفاق عليهن مع قيامه بواجباته الأخرى ، كالإنفاق على من تجب عليه نفقته من ذوي رحمه .
وهذا الشرط مفهوم من قوله تعالى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } فسر الشافعي (ألا تعولوا) ألا تكثر عيالكم(1) أي : فتعجزون عن الإنفاق والقيام عليهم بشئونهم .
والحاصل أن من كان لا يستطيع الإنفاق على أكثر من زوجة واحدة ، حرم عليه أن يتزوج بأخرى .
حكم نكاح ما زاد فوق العدد الشرعي
العدد الشرعي :
أجمع أهل العلم أن الحر ليس له أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات(2) ودليل الإجماع ما يلي :
1 _ قوله عز وجل : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ (3)} فالآية تفيد التخيير بين اثنتين أو ثلاث أو أربع فكأنه قال عز وجل : مثنى أو ثلاث أو رباع ، واستعمال الواو مكان ( أو ) جائز قال بعضهم في قول الشاعر :
ــــــــــــ
1 _ وقد أنكر الثعالبي وابن العربي على الشافعي هذا التفسير ، قال الشوكاني : ويجاب عن إنكار الثعالبي وابن العربي لما قاله الشافعي بأنه قد سبق الشافعي ، إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد وهما إمامان من أئمة المسلمين ، لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية . وقد أخرج ذلك عنهما الدار قطني في سننه 3/314 ، 315 / اهـ فتح القدير 1/421 .
وذكر القرطبي عن القاسم بن حبيب قال : سألت أبا عمر الدوري عن هذا ، وكان إماماً في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير وأنشد :
وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا
أي : وإن كثرت ماشيته وعياله / اهـ الجامع لأحكام القرآن 5/22 .
2 _ علي بن أحمد بن سعيد بن حزم : مراتب الإجماع / 63 .
3 _ سورة النساء آية / 3 .
وقالوا نأت فاختر لها الصبر والبكا فقلت : البكا أشفى إذا لغليلي
معناه أو البكاء ، إذا لا يجتمع مع الصبر(1) .
2 _ وعنه أنه قال لغيلان بن أمية الثقفي ، وقد أسلم وتحته عشر نسوة : (اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن(2) ) .
3 _ عن الحارث بن قيس(*) قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة ، فذكرت ذلك للنبي فقال : ( اختر منهن أربعاً )(3) .
4 _ وأسلم صفوان بن أمية(**) وعنده ثمان نسوة ، فأمره رسول الله أن يمسك أربعاً ويفارق سائرهن(4) .
5 _ وفي مسند الشافعي : قال نوفل بن معاوية(***) : أسلمت وتحتي خمس ،
ــــــــــــ
1 _ ابن هشام : مغني اللبيب 2/358 بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد .
2 _ سنن الترمذي 3/426 حديث رقم 1128 ، سنن الدار قطني 3/269 ، 270 ، ومسند الإمام الشافعي / 274 .
3 _ سنن أبي داود 2/277 ، 278 ، حديث رقم 2221 ، والدار قطني 3/270 ، 271 .
4 _ سنن الدار قطني 3/269 .
* _ هو الحارث بن قيس بن الأسود ويقال قيس بن الحارث ، يعد في الكوفيين وهذا الحديث رواه عنه حميضة بن الشمردل ، انظر تهذيب التهذيب 8 / 386 حرف القاف .
** _ هو الصحابي الجليل صفوان بن أمية بن خلف القرشي الجمحي ، أبو وهب أسلم بعد الفتح ، وكان من المؤلفة وشهد اليرموك ، روى عن النبي وروى عنه أولاده ، أمية وعبد الله وعبد الرحمن وآخرون وكان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام مات سنة / 41 وقيل 42 ، انظر تهذيب التهذيب 4/424 .
*** _ هو الصحابي الجليل ، نوفل بن معاوية بن عروة ، أبو معاوية الديلي روى عن النبي وروى عنه عوف بن الحارث وعراك بن مالك ، وآخرون وكان قد شهد بدراً مع المشركين ثم أسلم وشهد الفتح وحنيناً والطائف قيل عمر في الجاهلية 60 سنة وفي الإسلام 60 سنة ومات في خلافة يزيد ، تهذيب التهذيب 10/492 . وأخرجه ابن ماجة رقم (1953) وابن حبان (1377) والحاكم (2/192/193) وأحمد (2/44) من طرق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشرة نسوة الحديث .
فسألت النبي فقال : فارق واحدة وأمسك أربعاً(1)(*) فلو كانت الزيادة على الأربع حلالاً لما أمرهم بمفارقة البواقي ، فدل على أن منتهى العدد الشرعي هو أربع .
قال الشافعي : ( وقد دلت سنة رسول الله المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة(2) .
وهناك طائفة من الرافضة قالوا : إن قوله تعالى { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } يدل على إباحة تسع نسوة ، لأنه تعالى ذكره هذه الأعداد بحرف الواو ، وأنه للجمع ، وجملتها تسعة فيقتضي إباحة نكاح تسع(3) :
وعضدوا ذلك بأن النبي نكح تسعاً ، وجمع بينهن في عصمته .
بل وذهب بعضهم إلى أقبح من هذا ، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة ، قالوا لأن الصيغ في الآية يفيد التكرار ، فالمثنى ضعف الاثنين بمعنى اثنين اثنين والثلاث ضعف الثلاثة والرباع ضعف الأربعة ، والواو للجمع فجملتها ثمانية عشر(4) وهذا خرق للإجماع(5) .
قال أبو عبد الله القرطبي : وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة ، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته بين أكثر من أربع(6) .
وأما الآية فإنها تفيد التخير كما سبق .
ــــــــــــ
1 _ مسند الشافعي / 274 .
2 _ البيهقي : السنن الكبرى 7/149 .
3 _ ابن حزم المحلى : 11/5 ، الكاساني : بدائع الصنائع 3/1404 مغني المحتاج للشربيني 3/181.
4 _ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن 5/17 ، بدائع الصنائع للكاساني 3/1404 .
5 _ ابن قدامة : المغني 7/85 ، الشربيني مغي المحتاج 3/181 .
6 _ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن 5/17 .
* - وأخرجه البيهقي (7/184) من طريق الشافعي إلا أن الشافعي رحمه الله تعالى قال أخبرنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد ، فلم يسم شيخه .
قال الموزعي : ( والحال لا يتعدد مع واو العطف الموضوعة للجميع ، وإنما يتعدد بدونها ، ومتى دخلت الواو على الأحوال المتعددة كان من باب النعت ، كقوله تعالى { أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } والنعت لا يتصور في الآية(*) فتعيين مجيء الواو للتخير(1) .
وكقوله تعالى { أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }(2) لم يرد أن لكل ملك تسعة أجنحة ، ولو أراد ذلك لقال : تسعة ، ولم يكن للتطويل فائدة .
ولأن في الزيادة على الأربع خوف الجور عليهن بالعجز عن القيام بحقوقهن ، لأن الظاهر أنه لا يقدر على الوفاء بحقوقهن ، وما روي أن أحداً من الصحابة جمع بين أكثر من أربع زوجات ، وأما ما أبيح من ذلك للنبي فذلك من خصوصياته ، لأن خوف الجور منه غير موهوم لكونه مؤيداً بالقيام بحقوقهن بالتأييد الإلهي .
واختلفوا في العبد هل له أن ينكح أربعاً أم لا ؟
الجمهور على أنه لا يجوز له الجمع إلا بين اثنتين فقط(3) ، وهو قول عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم ، وبه قال عطاء والحسن والشعبي وقتادة والثوري(4) وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه يجوز للعبد أن ينكح أربعاً(5) ، وهو قول أبي الدرداء والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومجاهد والزهري وربيعة وأبي ثور(6) وهو مذهب أهل الظاهر(7) .
ــــــــــــ
1 _ الروض النضير للحسين بن أحمد السياغي 4/250 .
2 _ سورة فاطر آية / 1 .
3 _ الكاساني : بدائع الصنائع 3/1340 ، الشربيني مغني المحتاج 3/181 ، ابن قدامة المغني 7/185 ، علي بن أحمد بن حزم : مراتب الإجماع / 63 .
4 _ ابن قدامة : المغني 7/85 .
5 _ ابن رشد: بداية المجتهد 2/35 ، الخرشي على مختصر خليل 3/210 مع حاشية العدوي .
6 _ ابن قدامة : المغني : 7/86 ، الحسين بن أحمد السياغي 4/449 .
7 _ ابن حزم : المحلي 11/11 .
* _ هي قوله تعالى { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } .
استدل الجمهور بما يلي :
1 _ إن من قال به من الصحابة لم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً .
2 _ روى الليث بن أبي سليم بن عتيبة(*) عن عطاء قال : ( أجمع أصحاب رسول الله على أن العبد لا ينكح من اثنتين(1) .
3 _ روى الإمام أحمد بإسناده عن محمد بن سيرين أن عمر(**) رضي الله عنه سأل الناس : كم يتزوج العبد ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : باثنتين(2) فدل هذا على أن ذلك كان بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم ينكر .
قالوا : وهذا يخصص عموم الآية { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } على أن فيها ما يدل على إرادة الأحرار(3) وهو قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (4)} .
ولأن مالكية النكاح تشعر بكمال الحال ، لأنها من باب الولاية والعبد أنقص حالاً من الحر ، فيظهر أثر النقصان في عدد المملوك في النكاح ، كما ظهر أثره في الطلاق والحدود وغير ذلك(5) .
ــــــــــــ
1 _ البيهقي : السنن الكبرى 7/158 .
2 _ البيهقي : السنن الكبرى 7/158 .
3 _ ابن قدامة : المغني 7/86 .
4 _ سورة النساء آية / 3 .
5 _ الكاساني : بدائع الصنائع 3/1341 .
* _ هو الليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي مولاهم ، أبو بكر الكوفي ، واسم أبي سليم ، أيمن ، ويقال أنس ، روى عن طاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وغيرهم ، وروى عنه الثوري الحسن بن صالح وشعبة بن الحجاج ، وآخرون ، وقال فيه ابن سعد كان صالحاً عابداً وكان ضعيفاً في الحديث توفي سنة (148) انظر تهذيب التهذيب 8/465/468 .
** _ تقدمت ترجمته .
واستدل المالكية ومن وافقهم على أن للعبد الجمع بين أربع نسوة بما يلي :
1 _ أنه لا حجة في كلام أحد دون كلام الله تعالى ورسوله وقد قال تعالى { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ }(1) وقال تعالى { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ }(2) فيتناول الخطاب ، الأحرار والعبيد ، كما هو مقرر في الأصول إلا ما خصه الدليل ، كنكاح العبد بغير إذن سيده ، وسائر تصرفاته(3) .
2 _ إن النكاح من العبادات ، والعبد والحر فيهما سواء ، بخلاف الطلاق فهو من معنى النكاح ، فكان طلاقه نصف طلاق الحر كما في الحدود(4) .
3 _ ولأن هذه طريق اللذة والشهوة ، فساوى العبد الحر كالمأكول(5) .
4 _ الإجماع المدعى ممنوع لخلاف أبي الدرداء من الصحابة ومن معهم من التابعين فمن بعدهم .
والمتأمل في أدلة الفريقين يرى أن أدلة الجمهور أولى وأحرى بالترجيح .
ذلك لأن في النكاح ملكاً والعبد ينقص ملكه عن الحر ، ولأنه يصعب عليه العدل بينهن لكونه مملوك المنافع ، يقوي ذلك ما رواه الدار قطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( ينكح العبد امرأتين(6) ) .
وروى البيهقي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( ينكح العبد اثنتين لا يزيد علهيما ) (7) .
ــــــــــــ
1 _ النساء آية / 3 .
2 _ سورة النور / 32 .
3 _ ابن حزم المحلى 11/11 ، الحسين بن احمد السياغي : الروض النضير 4/249 .
4 _ الخرشي على مختصر خليل 3/210 .
5 _ ابن قدامة : المغني 7/86 .
6 _ 3/ 308 .
7 _ السنن الكبرى 7 .
وفي مسند زيد عن علي عليه السلام قال : ( لا يتزوج العبد أكثر من امرأتين ولا الحر أكثر من أربع )(1) .
وقد مر بنا إجماع الصحابة على ذلك
ثم العبد لا يصح نكاحه بغير إذن المولى :
لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي قال : ( إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل(*)(2) ) .
وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر(**)(3) والعاهر الزاني .
قال الخطابي : وإنما بطل نكاح العبد من أجل أن رقبته ومنفعته مملوكتان لسيده ، وهو إذا اشتغل بحق الزوجة لم يتفرغ لخدمة سيده ، وكان في ذلك ذهاب حقه ، فأبطل النكاح إبقاءه لمنفعته على صاحبه(4) .
ويصح منه بإذن المولى لأنه لما أبطل النبي نكاحه بغير إذنه ، دل على أنه يصح بإذنه ، ولأن المنع لحق المولى فزال بإذنه ، وعلى هذا جمهور العلماء(5) . والله أعلم .
ــــــــــــ
1 _ مسند زيد بن علي 4/249 ، مع الروض النضير .
2 _ أبو داود 2/63 ، حديث رقم / 2079 .
3 _ أبو داود 2/63، حديث رقم / 2078 .
4 _ الخطابي معالم السنن 2/63 .
5 _ المجموع شرح المهذب 16/130 .
* _ وقال أبو داود عقبة : هذا الحديث ضعيف ، وهو موقوف ، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما انظر سنن أبي داود الحديث رقم (2079) .
** _ وأخرجه الترمذي (1_207) والدارمي (2_152) وابن ماجة (1959) والحاكم 2/194، والبيهقي (7_127) وأحمد (3/301/377/382) من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر به وقال الترمذي : حديث حسن ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد .
حكم العقد على خامسة في أثناء عدة الرابعة
الحر إن كان تحته أربع نسوة حرمت الخامسة تحريم جمع إجماعاً ، فإذا طلق إحدى الأربع طلاقاً رجعياً ، فالتحريم باق على حاله ، وهذا موضع اتفاق بين الأئمة(1) أما إذا طلق الرابعة طلاقاً بائناً ، فاختلفوا في ذلك على مذهبين :
الأول : أنه لا يجوز أن يعقد على الخامسة حتى تنقضي عدة الرابعة البائن ، وهو مذهب الحنفية(2) والحنابلة(3) ومعهم سلف من الصحابة(4) استدلوا على ذلك بما روي عن عبيدة السلماني أنه قال : ( ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر ولا تنكح امرأة في عدة أختها)(5) لأنه لا فرق في الحكم بين نكاح المرأة في عدة أختها الثانية ، أو نكاح خامسة في أثناء عدة الرابعة )
وروي عن أبي الزناد(*) قال : كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة ، فطلق واحدة البتة ، وتزوج قبل أن تحل ، فعاب عليه كثير من الفقهاء وليس كلهم عابه ، قال سعيد بن منصور : ( إذا عاب عليه سعيد بن المسيب فأي شيء بقي؟!(6) قالوا ولأنها
ــــــــــــ
1 _ الكاساني : بدائع الصنائع 3/1399 .
2 _ الكاساني : بدائع الصنائع 3/1399 .
3 _ ابن قدامة : المغني 7/88 ، 89 .
4 _ منهم علي وابن عباس وزيد بن ثابت انظر الكاساني بدائع الصنائع 3/1399 ، 1400 .
5 _ ذكره ابن قدامة في المغني 7/89 .
6 _ ابن قدامة : المغني 7/88 وقد روى الدار قطني عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأساً إذا بت طلاق امرأته أن يتزوج خامسة ، حامل كانت امرأته أو غير حامل . ورواية الدار قطني هذه تخالف ما نقله سعيد بن منصور عنه : انظر الدار قطني 3/308 .
* _ هو عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني ، المعروف بأبي الزناد روى عن أنس وعائشة بنت سعد وأبي أمامة ابن سهل بن حنيف وغيرهم ، وروى عنه ابناه عبد الرحمن وأبو القاسم وصالح بن كيسان وآخرون قال الليث عن عبد ربه بن سعيد ، رأيت أبا الزناد دخل المسجد النبوي ومعه من الاتباع مثل ما مع السلطان ، مات سنة (31) تهذيب التهذيب 5/204 .
محبوسة عن النكاح لحقه أشبه ما لو كان الطلاق رجعياً ، ولأنها معتدة في حقه أشبهت الرجعية(1) .
المذهب الثاني : أنه يجوز العقد على الخامسة أثناء اعتداد الرابعة المبتوتة ، وهو مذهب المالكية(2) والشافعية(3) ومن وافقهم ، قالوا : لأن الزواج قد انتهى ، فلا يوجد جمع في أثناء العدة ، والتحريم إنما هو للجمع بينهن ، والبائن ليست في نكاحه ، فأشبهت المطلقة قبل الدخول يؤيد ذلك ما روي أن القاسم بن محمد(*) وعروة بن الزبير(**) كانا يقولان في الرجل يكون عنده أربع نسوة ، فيطلق إحداهن البتة أنه يتزوج إذا شاء ولا ينظر أن تنقضي عدتها(4) .
والذي تميل إليه النفس هو جواز العقد على خامسة ، أثناء اعتداد الرابعة المبتوتة ، لانقطاع سلطنة الزوج بانتهاء الزواج بينهما .
بخلاف المعتدة بطلاق رجعي فهي زوجة أو في معناها .
ولانتفاء آثار النكاح إذ لا يرث أحدهما من الآخر إن مات أحدهما في أثناء اعتدادها ، وطريق الاحتياط لا تخفى ، وهي في هذا الباب أولى .
وهذا الخلاف يجري في حكم نكاح العبد ثالثة في أثناء اعتداد الثانية المبتوتة كما هو مذهب الجمهور ، أو خامسة في أثناء اعتداد الرابعة البائنة على نحو ما ذكرنا في الحر ، وهو مذهب أهل الظاهر ومشهور مذهب مالك ، والله أعلم .
ــــــــــــ
1 _ ابن قدامة : المغني 7/88 .
2 _ الخرشي على مختصر خليل 3/12 .
3 _ الشربيني : مغني المحتاج 3/182 .
4 _ سنن الدار قطني 3/308، مالك : الموطأ 2/548 حديث رقم 54 كتاب النكاح .
* _ تقدمت ترجمته .
** _ تقدمت ترجمته .